أخي في الله...
قد آذن الركب بالرحيل، ومازلت أراك حائرًا، تتعثر خطاك، تقول: كيف السبيل؟ كيف أطلب العلم؟ من أين أبدأ؟
وإنْ كان مضى طرفٌ من ذلك عارضًا فيما مرَّ، فذا أوان بيانه، فإمضِ بإذن الله موفقًا، واللهَ أسأل أن يرزقنا الصدق والإخلاص في القول والعمل، وأنْ يكتب لنا الصواب ويجنبنا الزلل، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها المتفقه...
لابد لك من منهجين يمضيان معًا، لا ينفك أحدهما عن الآخر، منهج في تلقي العلوم الشرعية، ومنهج في التربية، فأنت تعلم أنَّ أصول المنهج ثلاثة: التوحيد والإتباع والتزكية.
قال الله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [البقرة:129].
وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين} [آل عمران:164].
وقال جل وعلا: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة:2].
فرسالة الأنبياء وورثتهم من بعدهم تتناول تلك الجوانب الثلاثة، فلابد من علم وعمل ودعوة، لابد من تزكية للنفوس وشحذ للعقول، والمنهج الذي لا يراعي هذه الجوانب الثلاثة منهج يجانب الصواب.
قواعد هامة عامة في أصول المنهج:
1= لقبول العبادة شرطان: الإخلاص ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم: قيل: قولوا لمن لم يك مخلصاً: لا تتعنّ.
فلذلك، حرر الإخلاص، وإجتهد في ذلك، واحرص على أن يكون عملك لله وحده لا رياء الناس، ولا شهوة، ولا هوى وحظ نفس، ولا لطلب الدنيا والعلو فيها، والأمر يحتاج إلى جهاد وصبر ومثابرة.
2= قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من عَمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» صحيح مسلم 1718.
فلا تتعبد إلا بالوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبفهم السلف لأصول العبادات، ولا تبتدع في دينك، فالبدعة شر من المعصية.
3= التدرج أصل في هذا المنهج فأوغل في الدين برفق، وراع فقه النفس، ولا تحملها فوق طاقتها فتستحسر وتترك، ولكن لا يكون التدرج تكأة للتفريط، ولا مدعاة للكسل، ولا سبيلاً لسقوط الهمة وعدم طلب الأعلى والأكمل والأفضل. قال ابن الجوزي: للنفس حظ، وعليها حق، فلا تميلوا كل الميل، وزنوا بالقسطاس المستقيم.
4= والصبر أصل آخر، فلا تظن أنك ستجد قرة العين في الصلاة من أول مرة، أو تستشعر حلاوة ولذة القيام في البداية، أو تجد الخشوع والدموع عند تلاوة القرآن منذ الآية الأولى، كلا ولا، فالأمر يحتاج إلى صبر وصدق ومعاناة.
قال بعض السلف: عالجت قيام الليل سنة، ثم تمتعت به عشرين سنة فإصبر سنة وسنوات لتنال الرتب العالية.
5= المجاهدة والمعاناة أصل مع الصبر والاصطبار، قال بعض العلماء: من أراد أن تواتيه نفسه على الخير عفواً، فسينتظر طويلاً، بل لابد من حمل النفس على الخير قهراً، وهذا هو الحق المطلوب، أن يحمل الإنسان نفسه على الخير حملاً.
قال بعض السلف: عودوا أنفسكم على الخير، فإن النفوس إذا اعتادت الخير ألفته.
جاهد نفسك لعمل الخير، جاهد نفسك لتحقيق الإخلاص، جاهد نفسك لتحسين العمل، جاهد نفسك للارتفاع بمستوى إيمانك، جاهد نفسك لتكون من المتقين.
6= تدرب ذهنياً على العبادات قبل أدائها، بمعنى أنك ينبغي أن تقرأ عن الصلاة، وفضل قيام الليل، وجزاء الصائمين القائمين، وعاقبة المتصدقين قبل أداء هذه العبادات، وكذلك قراءة أحوال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والصالحين لتكوين صورة لهذه العبادات ذهنياً، واستشعارها قلبياً، ثمَّ الدخول في هذه العبادات بهذا التصور، فيكون الأمر أسلم وأدعى لتحصيلها على أحسن صورها وأكمل أحوالها.
7= لا تستخف بقدراتك وكن مستعداً للمجازفة.
إنَّ عدم المجازفة نتيجة الخوف من الفشل عائق للنجاح، إنَّ العبد الرباني هو الذي يعتمد على الله ويتوكل عليه، ثم يحزم أمره، وينطلق في عمله، قال الله تعالى: {وإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران:159]
وقال جل وعلا: {فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم} [محمد:21]
أنت قوي فتوكل على الله، وأنت تستطيع الكثير، ولست أقل ممَّن وصلوا إلى المراتب العليا في العلم والعمل. بقي لك الصدق والتوكل، ثمَّ إذا أخفقت أو فشلت، فأعمل فكرك كيف تجنب نفسك الإخفاق مرة أخرى.
8= اطلب النتيجة لا الكمال.
إنَّ المسلم الحكيم هو الذي يطلب النتيجة الصحيحة عبر مقدماتها الصحيحة دون أن يبالغ في مطلبه، فينزع إلى إشتراط الكمال في مواهبه، فإذا وجد قصوراً في نفسه -وهو لا شك واجد- سارع إلى إصلاحه، وإجتهد في تصحيحه، وليس شرطاً أن يصير صحيحاً مائة في المائة، لابد من قصور، فاستمتع بها على عوج.
إنَّ الإنشغال بتحسين نتائج العمل خير ألف مرة من إشتراط الكمال في الأعمال، لأن ذلك مثبط عن الأعمال، ودافع إلى الإنقطاع والإستحسار.
9= تكامل الشخصية الإيمانية بتكامل أعمال الإيمان.
قالوا: لو أنَّ للنفوس بصمات لكانت أشد اختلافاً من بصمات الأصابع، ومن ثمَّ، فليس كل علاج موصوفاً يناسب جميع النفوس، وقد علم فاطر النفوس سبحانه أنَّ خلقه هكذا، فجعل مراضيه سبحانه متعددة، تناسب إمكانات النفوس وطاقاتها وقدراتها، فشرع سبحانه الصيام والصلاة، والذكر والصدقة، والقرآن وخدمة المسلمين، وطلب العلم وتعليم الناس، والحج والعمرة.. كل من هذه العبادات وعشرات غيرها منها فرائض ومنها نوافل، وجعل سبحانه الفرائض بقدر ما لا يشق على النفوس، ثمَّ فتح الباب في النوافل يستزيد منها من يشاء، ولا حرج على فضل الله، فقم بالفرائض فأدِّها كما ينبغي، ثمَّ اعمد إلى النَّوافل فاستزد ممَّا تجد في نفسك رغبة وهمة إليه.
قال الله في الحديث القدسي: «وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه» رواه البخاري 6502، فزد في النوافل قدر ما تستطيع، ولكنّ لكل نفس باباً يفتح لها من الخير، تلج فيه إلى منتهاه.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: أنا لا أصوم يعني النوافل لأن الصوم يضعفني عن الصلاة، وأنا أفضِّل الصلاة على الصيام.
هذا المنهج يناسب إن شاء الله تعالى جميع النفوس، حاولت أن أستوعب فيه جميع جوانب العبادة، ولكن إذا وجدت من نفسك همة ونشاطاً في جوانب العبادة فاسلكه، ولا تتوان وزد فيه، ولا تتأخر لعل الله يجعل فيه زكاة نفسك، والتزم جميع الجوانب بقدر الإمكان، فإنها مكملات لشخصيتك الإيمانية.
11= المتابعة أم المداومة والإستمرار أبو الإستقرار.
لابد لك من شيخ متابع، أو أخ كبير معاون، أو على الأقل زميل مشارك، لا تكن وحدك: «فإنَّما يأكل الذئب القاصية» حسنه الألباني في صحيح الجامع5701، فليكن لك شيخ يتابعك إيمانياً، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتابع أصحابه يومياً فيقول: «من أصبح منكم اليوم صائماً؟ من أطعم اليوم مسكيناً؟ من عاد اليوم مريضاً؟» صحيح مسلم 1028.
وقد أمره ربه بذلك في أصل أصول التربية فقال: {واصْبرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالْغدَاة والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف:28]. فإبحث لك عن شيخ وبالإخلاص ترزق، وابحث عن أخ كبير تستشيره، فهو ذو خبرة سابقة تنفعك، وائتلف مجموعة من الإخوة الأقران يكونون عوناً لك على طاعة الله ورسوله، فتكونون: {كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِم الْكُفَّارَ} [الفتح:29].
12=لا تمنن تستكثر:
إعلم أخي يرزقني الله وإياك الإخلاص في القول والعمل والسر والجهر، أنَّ التحدث بالعمل لا يخلو من آفات، فإمَّا أن يكون إظهار العمل للرياء والفخر والسمعة فيحبط عملك أو تحسد، فالإيمان يتعرض للحسد فتحصل الإنتكاسة، فإكتم عملك، وأسرَّ بقرباتك، ولا تحدث بطاعاتك تسلم.
ونصيحة أخرى: إنَّك لا تدري أي أعمالك حاز القبول، ونلت به الرضا، فمهما كثر عملك، فلتكن على وجل خوفَ الرد وعدم القبول أو حَذر الحسد وإفساد الأحوال، ولا تفتر فتهلك.
نعوذ بالله من تكدير الصافي، ونسأل الله السلامة والمسامحة.
المصدر: موقع الربانية.